لهذا يجب ان تمرضوا؟
لهذا يجب ان تمرضوا؟
مميزة هي فترات المرض فهي تفرض عليك ترك كل شيء في حياتك و تجبرك على الخلوة القسرية مع نفسك. نفسك التي طالما هربت و تهربت منها و خفت من مواجهتها لانك لك معها سوابق في اللوم و العتاب و التجريح.. كأننا ذاك المراهق الذي يتهرب من كل ناصح واعظ مندفعا غير أبيٍ يجعل اصابعه في آذانه حذر الذم..
النفس هي كتلك الام الملحاحة اللجوجة المتشدقة المنانة الشاكية الباكية البراقة الجاحضة المحاججة و العالمة بما في الصدور و المطلعة على السر و العلن..
ــ
أُمٌ نخشاها ايما رهبة فلم نتعلم الاصغاء لها ولم نألف لهجتها الحادة والصريحة والقاسية.. ولم نَخبُر بعدُ تلك المهادنة التي تأتي انتهائها من بوحها، فتعانقك عناقا ينزل عليكما السكينة كأن على رأسيكما الطير..
آه عن ذاك العناق..
حين تلتف الساق بالساق و يلتف الدراع بالدراع و تحادي الساق الدراع و تميل الرقبة بين اليدين كأنك جنين في بطن أمه، أبى ألا يشقَ عليها و ياخد أصغر حيز وسط أحشائها وتلتف به من كل صوب كحوث كواعب يسبح في غياهب الظلام.. لا يبصر إلا بنورها ولا يسمع إلا بسمعها ولا يتنفس إلا نفسها ولا يبطش إلا ببطشها.. يهشها ذات اليمين و ذات الشمال و يعلق حيث اضلعها، عاقا حتى تعجز عن تحريك النفس وينتهِ، ليتنفسا سويا وينبض قلبهما سويا نفس الايقاع.. كأنها رقصة موج هادىء على شط ناعم يمد البحر أهدابه ليالاطف الرمل مجئ و ذهابا ويستمر المشهد المقدس ويتكرر في كل زوجين يتزاوجان على أديم الوجود بنفس الايقاع المحكم و بنفس رباط العناق المقدس..
ــ
وتأتي هلاوس الحمى لتحملكما إلى عوالم أخرى لليوتوبيا والنيرفانا واليودايموميا.. وكل الماروائيات و السرياليات..
منطقة مطاطية بين النوم و اليقضة تجعلك.. تتحول انت مع نفسك إلى الافاطار الكامل الناجز.. بعد توحدك مع نفسك وانصهارك فيها أصبحتما واحدا متحدا..
ــ
لقد كانت نفسك قبل هذا منصهرة فيك مشتتة و مشععة كأنها ألف نفس تصرخ في داخلك أنّا نحن هنا و أنّا نحن لا نحنو..
انت الان تحت سطوتها..
حيلولتك في نفسك حينما يشف ثوبها و يجتمع رفاثها و تجتمع أهواؤها و تضمحل مقاييس الفؤاد و مكاييل الوجدان..
فلا غرابة إن وصف جهابذة الصوفية الانغماس في حب النفس المطلقة السُكْر والشرب و الخمرة و كل المعاني التي تدور حول مفهوم ذوبان العارف في حب معشوقه..
و إن كان سكون العقل والقلب في عيش اللحظة فالنفس تعيش حينما تخرج من الاسوار الضيقة للجسد إلى الفضاء الواسع اللامحدود..
ــ
حينما تكون نفسك داخلك فأنت أشبه بحصاة بين بضعة ملايير اخرى تقاذفها التيارات و الجداول و الانهار تكسرها و تنحثها..
الحصاة في سوق الحجر تعتقد انها هي من يمشي وينتقل بإرادتها الذاتية.. والملساء منها تمشي خيلاء لشدة جمالها و قوامها البراق.. وكلهم في النهاية يعودون إلى تراب يترسب فيضغط عليه تراب اخر ويترسب إلى أن يصبح جرفا أصم فقد حريته و حركته.. فيستغيت طالبا الرجوع إلى اخر حال كان عليه من حرية: يا ليتني كنت ترابا..
ــ
وحينما تعيش نفسك خارجها تنقشع من داخل الحصاة:
هذه الحصاة تجهل أنها تحمل داخلها ذرة مشعة مخصبة ما إن انشطرت حولت الموجود للعدم وأصبحت بما فيها هي الوجود.. رثقا يُفتق يشكل كونا جديدا و بعدا فريدا و حياة مديدة.. تشكل شموسها و كواكبها و نجومها و سماواتها و اراضيها..
وتمتد دون توقف في إنفجار مستمر.. كأنها تصّعد في نفق نوراني علوي فوق كل مكان و كل زمان..
هناك ..تعرف انه مستقرك الاخير.. هناك تطمئن و ترضى.. و في طريقك لمعراجك تلقي بكل الحصاوات التي كنتَ، وكل من لطمتها ولطمتك.. وكل التي شحدتك أو صقلتك والتي شحدتها أو صقلتها.. تراها هناك في جنبات مصعد النور مصطفة منها الباسرة ومنها الباسمة.. و تصّعد للأعلى حيث تبدأ رحلة جديدة..
ــ
شكرا لكل سَأْمٍ أجلسني مع نفسي و جعلني أولوية نفسي..
شكرا لهلاوس الحمى.. فهي أفيون مجاني ينقلك الى ما وراء الاحتمالات..
ــ
المرض الذي يميتك ينقلك من عالم أدنى إلى عالم أعلى..
والمرض الذي لا يميت يجعلك تدنوا و تتوحد مع نفسك..
كلاهما يحيان النفس..
ــ
لا تتمنى المرض لكن تمنى الموت، ساعة يشاء ربُ مَلِك الموت..
قولوا امين..